“أمل” الفصل الأول
بقلم نشوة أبوالوفا
“أمل”
الفصل الأول
في بلدة ريفية بقرية من إحدى قرى محافظات الدقهلية تحديدًا قرية كفر عبد المؤمن، أشرقت شمس دافئة تنثر أشعتها على الحقول المرتدية فستانها الأخضر، المتمايلة مع مداعبات نسمات الهواء وتلك الأشجار التي تهتز طربًا لزقزقة العصافير الطالبة لرزقها، فتحت الحاجة أم هاشم كما تُلقب، أبواب نافذة غرفة ابنتها أمل، تحثها على النهوض لتناول إفطارها قبل ذهابها للمدرسة، فأمل طالبة بالسنة النهائية بالمرحلة الثانوية، تململت أمل في فراشها وعادت للنوم ثم تذكرت المدرسة، فأزاحت ذلك الغطاء الذي كان يعانق جسدها وأبعدته في كسل متثائبة، وأبعدت خصلات شعرها الحالك السواد شديد التشابك من على جبينها ومددت ذراعيها محاولة إبعاد آثار النوم من جسدها ونزلت من على سريرها مقبله والدتها ومحتضنة إياها
“يا أحلى صباح على أحلي أم هاشم في الدنيا كلها”
ضحكت والدتها وهي تحضنها “آه يا بكاشه، بتقولي أم هاشم يبقى عاوزه حاجه على الصبح، مش تايهه عنك أنا، قومي بس افطري وبعدين اطلبي”
توجهت أمل للحمام واغتسلت وتوضأت ودخلت في حربها اليومية مع شعرها في محاولات منها لجعله سهل التمشيط، وأدت فرضها واحتلت مكانها على طبلية الإفطار، فوالدها عبد الجبار لا يقبل إلا بتناول الطعام على الطبلية، رغم وجود الطاولة التي تحتل مساحة مميزه في الصالة، ألقت تحية الصباح على والدها
“صباح الخير يا حاج”
ليبادرها كالمعتاد منه
“صباحك زي بعضه، بلا قرف، كلي واخلصي”
ابتلعت غصتها “حاضر يا حاج”
“الهباب الامتحانات دي لسه فاضل عليها كتير عشان نخلص”
فرحت لسؤاله رغم أنه سأله بتبرم وضيق
“لا قربت خلاص”
ابتسم ابتسامة غامضة “كويس”
أنهت إفطارها وقبل أن تفتح باب المنزل أوقفها بصوت عال
“اعدلي الطرحه اللي على راسك دي، فيه شعريتين طالعين”
عدلت من وضع حجابها وغادرت، تنفست الصعداء فمجرد وجودها برفقة والدها يوترها، وتوجهت برفقة زميلاتها إلى المدرسة التي تعشقها فهي المكان الذي يسمح لها بالذهاب إليه وذلك بفضل جهود العمدة وزوجته الغالية أزهار فلولاهما ما كان والدها سمح لها بالخروج من المنزل للمدرسة أبدًا.
تسير برفقتهن ناظرة أمامها لا تلفتت لأي كان، استمرت في طريقها للمدرسة متجاهلة الصفير وصيحات الإعجاب المنبعثة من الشباب المحيط بالمدرسة، غير عابئة بالشابين اللذان قد أمسكا برقبتي بعضهما، وكل منهما يريد منع الآخر من النظر لأمل ورفيقاتها، وأنهن يخصنه هو، أنهت يومها الدراسي وعادت للمنزل.
“ماما يا ست الكل”
ضحكت أم هاشم “اخلصي يا أمل عاوزه إيه؟”
اقتربت منها أمل وعانقتها “ربنا يخليكي ليا يا أحلى أم يا ست الكل”
“يا أمل هاتي من الآخر عاوزه إيه؟”
“رحلة”
“نعم! رحلة إيه بقى!”
“رحله مع المدرسة اسكندرية، ربنا يخليكي ليا اقنعي بابا، إنتي عارفه هاموت وأشوف البحر، يوم اتفسح فيه قبل الامتحانات بقى”
قطبت أم هاشم حاجبيها “صعب يا أمل، مش صعب يا بنتي، ده مستحيل، أنا حتى ما اقدرش افاتح أبوكي في حاجة زي دي، كان كدرني ونكد عليا، وإحنا مش ناقصين نكد، هو ما يتوصاش”
“يا ماما!”
“بلا ماما بلا بابا، انسي وخليكي في مذاكرتك، عاوزين مجموع يشرف عشان يقدر العمدة والشيخ نصار يقنعوه تقدمي في الجامعة”
كان الحزن يعتصرها لكن ماذا ستفعل؟ أمام سطوة والدها وجبروته وتعنته
دخلت غرفتها لتبدل ملابسها، وفجأة اقتحم والدها الباب وأغلقه من الداخل
بالمفتاح ممسكا إياها من شعرها
“لامه عليك الصبيان يا بنت ال…..”
لتحاول التفلت منه ولكنها بالطبع لا تستطيع ذلك
“صبيان إيه بس يا حاج؟ والله ما عملت حاجه!”
وأم هاشم أمام الباب تطرقه
“ربنا يسترك يا حاج، طب قولي فيه إيه؟”
ليواصل جذبها من شعرها ويصفعها
“أومال أنا اللي عملت يا بنت ال…..، الصبيان ضربوا بعض من خناقهم عليكِ، يا عديمة التربية، تلاقيك كنتِ مبينه شعرك، وإلا دخلتي القميص في الجيبه ومشيتي تتقصعي”
وواصل الضرب والسباب
ووالدتها تصرخ من الخارج “حرام عليك دي البت الحيله سيبها”
بينما أمل تصرخ من الداخل “أقسم بالله ما عملت حاجه ولا أعرف أنت بتتكلم عن إيه؟ وروح إسال”
“ما أنا هاسأل” وألقاها على السرير وبصق عليها وفتح الباب وأمسك أم هاشم من ذراعها بقوة حتى تألمت
” تربيتك الناقصه دي ما تعتبش بره البيت، فاهمه، لا مدرسه ولا زفت”
لتحاول الاعتراض ” بس يا حاج”
“ما بسش وإلا قسمًا بالله هادفنكم انتو الاتنين”
صمتت وليس لها سوى الصمت سبيل ودخلت لابنتها تحتضنها وتواسيها، وتخفف عنها ما كان من والدها
“بيعمل كده ليه؟! والله ما بصيت لحد ولا أعرف هو بيتكلم على إيه؟”
“عارفه يا بنتي عارفه، معلش اصبري، ده مهما كان أبوكي وخايف عليكي”
لتستمر في البكاء “خايف عليا يسأل الأول، ويعرف إذا كنت غلطت وإلا لا، مش يبهدلني كده من غير دليل”.
قابل عبد الجبار الشيخ نصار في الطريق ليبادره الشيخ بالتحية
” السلام عليكم يا عبد الجبار، عامل إيه؟”
“وعليكم السلام يا شيخ، هاعمل إيه؟ زي ما أنت شايف، مزاجي زفت، البت هتجيب لي العار!”
ليجيب الشيخ وقد ظهر الضيق على وجهه
“لا إله إلا الله، عار إيه يا راجل! دي أمل زينة البنات والكل بيحلف بأدبها”
فرد عبد الجبار وقد انقلبت قسمات وجهه “أدب إيه يا شيخ؟! العيال الصبيان ماسكين في بعض بسببها، والكل عارف إنهم اتخانقوا بسبب أمل بنت عبد الجبار، ده أنا عجنتها ضرب، بنت ال ….، ما هي أمها ما عرفتش تربيها، والله لأربيهم الاتنين من أول وجديد، وبلا مدرسه بلا زفت خلاص ما فيش طلوع”
ليوقفه الشيخ “حيلك حيلك، إيه الجبروت ده! الصبيان اتخانقوا عشان البنت عاجباهم، وما حدش عارف يآخد منها كلمه واحده، وعاوز تمنعها من المدرسه والامتحانات خلاص على الأبواب، يا راجل حرام عليك دي بتطلع الأولى على المحافظة كل سنه ومشرفاك”
ليشير بيده “مشرفاني إيه!، يا ريتني كنت خلفت ولد يشيل اسمي”
ليضع الشيخ يده على كتفه “ما تقولش كده، أمل بميت راجل، خف إنت عليها شويه، إنت خانقها خنقه صعبه، وما بتوريهاش أي حنيه”
بدا التبرم على وجهه فالكلام لا يعجبه
“حاضر ربنا يسهل”
فسأله الشيخ ” طب والمدرسه، والامتحانات”
“لا مافيش مدرسه، هابقى أوديها الامتحانات ونخلص بقى، وأول عريس يجي يآخدها”
فعلا صوت الشيخ نصار “عريس إيه يا راجل يا أبو مخ مقفول، البنت ممتازة في تعليمها، عاوز تدفنها بالحياة، طب تكمل تعليمها وتبقى حاجه تشرفك، وبعدين تتجوز”
رد بسرعه “إنت على راسي يا شيخ, ولولا محبتك في قلبي، ما كنتش سمحت لك تتكلم أصلًا في الموضوع ده، بعد الامتحانات أول عريس هياخدها وأخلص بقى من حملها ده، سلام عليكم”
وتركه وانصرف.
ليهاتفه العمدة
“ازيك يا عبد الجبار؟”
“تمام يا عمدتنا، إيه الأخبار؟”
“كله زي الفل، المهندس هشام اللي قلت لك عليه، جاي النهارده، يوصل كمان ساعه كده”
“يشرف وينور، قسمًا بالله غداه عندي”
“لا ما يصحش لازم يبقى عندي أنا العمدة، خليك إنت لبكره”
“ما اقدرش أكسر كلمتك يا عمدتنا، بكره غداه وغداك عندي إن شاء الله، وغدا عمال المستشفى اللي بتتبني كلهم عندي بكره”
“طول عمرك بيت كرم يا عبد الجبار، خساره ما لكش واد يشيل اسمك ويبقى في كرمك”
” ليه بس السيرة دي يا عمده؟ إنت عارف بتركبني العفاريت”
“خلاص يا سيدي، إنت تجيلي بقى تقعد معايا وتستقبل المهندس ونتغدى سوا”
“حاضر جايلك أهو”.
وذهب للعمدة غير عابئ بالمقهورتين الساكنتين بالمنزل، ولا حتى بكلمة، أو خبر من أنه سيتأخر أو يتناول الطعام بالخارج، فهما لا تستطيعان تناول الطعام في غير وجوده فلو فعلتا ذلك؛ لعاقبهما عقابًا شديدًا.
حضر المهندس هشام وبعد السلامات والتحيات والتعارف، تم وضع طعام الغداء، وبم أن أزهار زوجة العمدة صديقة لزوجة عبد الجبار بينما هي تغرف الطعام تذكرت حب صديقتها لصينيه المكرونه بالباشمل من يدها فأرسلت لها طبقا مع إحدى خادمات الدار، ولتعلمها بوجود زوجها لديهم، فهي تعرف أنه لن يخبرها، ما أن علمت أم هاشم بوجود زوجها لدى العمدة، حتى أشرق وجهها فسترتاح منه طوال الليل، لأنه بالتأكيد سيسهر هناك، تناولت الطعام مع ابنتها.
قرب آذان المغرب هاتفها زوجها
“أيوه، أنا اتغديت خلاص، اتغدوا بقى، واعملي حسابك بكره عندنا عزومه، للعمده والبشمهندسين اللي بيبنوا مستشفى الكفر وكل الرجاله الفواعليه اللي في المستشفى، يجي خمسين نفر كده”
صدمت “بتقول إيه يا حاج؟!ّ خمسين نفر و بكره! الوقت ضيق قوي”
رد بسخرية “آه قولي بقى إنك ما عتيش نافعه لحاجه، وهي المحروسه بنتك مش هتساعدك وإلا إيه؟! أنا قلت لك وخلاص اتصرفي ، إحمدي ربنا أصلا إني عرفتك من بالليل، وقلت أقولك تتغدي عشان تبقى بصحتك كده وصالبه طولك، بدل ما كنت سيبتكم من غير غدا لنص الليل، واسمعي أنا متغدي سمك وجبري وكابوريا، فاهماني! القميص الأحمر ماشي، يالا روحي شوفي اللي وراكي”
أغلقت الخط وهي تبتسم ابتسامه اغتصبتها من بين شفتيها محدثة نفسها
” آه لو عرفت إننا اتغدينا من قبل ما إنت تدينا الإذن!”
وتحولت الابتسامة المغصوبة لدموع مترقرقة في مقلتيها بدخول أمل عليها ” إيه يا ماما مالك؟!”
مسحت دموعها “أوعي تغلطي وتعرفي أبوكِ إننا كلنا قبل ما يتصل”
ضحكت أمل ضحكه مستهزئة “ليه هو أنا اتجننت؟ وبعدين إيه ده ؟! هو اتصل يقول اتغدوا، جديده الحركه دي أكيد فيه سبب تاني”
توجهت أمها للدوار الملحق بالدر حيث توجد الطيور التي تربيها
“طبعًا فيه سبب تاني، عندنا عزومه بكره على الغدا خمسين نفر يا قلب أمك”
ضربت أمل على صدرها “خمسين! يا نهاري”
اقتربت منها أمها مربتتة على كتفها “لا نهاري ولا ليلي، سِني السكينه كويس، عشان نبدأ يا دوبك نلحق”
دخلت أمل المطبخ لتسن السكين وهي تحدث نفسها “يا حلاوة يا ولاد، يا ظهرنا اللي هيتقطم عشان أبويا يتباهي بكرمه”
رن جرس الهاتف الأرضي وهي بالداخل لتنادي على أمها “الحقي يا ماما التليفون بيرن تعالي ردي بسرعه”
فهي من غير المسموح لها أن ترد على الهاتف
جاءت الأم “ألو، مين؟”
“ازيك يا أم هاشم، ها المكرونه عجبتك”
“حبيبتي يا أزهار، هو إنت بتعملي إلا الحلو كله”
“عرفت إن العزومه الكبيره عندك بكره، الصبح هابعتلك بنتين يساعدوكي”
“لا وعلى إيه هاتصرف أنا وأمل”
“دي عزومه كبيره يا أم هاشم”
“ما إنتي عارفه يا أزهار، عبد الجبار مش هيوافق إن حد يعمل الأكل غيري”
“يا ستي هيساعدوكي، يقشروا البصل ويقطعوه، يفرموا الثوم، يقطعوا الخضار ويجهزوه، الحاجات دي وكفايه عليكي الطبيخ وتنظيف الطيور ده لوحده يقطم الظهر، وما لكيش دعوه بعبد الجبار أنا هاخلي العمده هو اللي يقوله عليهم، ماشي يا حبيبتي؟”
“والله ما عارفه أقولك إيه ربنا يخليكي ليا، أهو إنتي شايله عني كتير، وما أنساش أبدًا إن لولاكي كان عبد الجبار قعد أمل من المدرسه”
“بس يا أم هاشم ده إنتي حبيبتي، وأمل زي بنتي، و لو عندي واد ما كنتش سيبتهالك أبدًا كنت جوزتهالوا، بس أمر الله بقى، الواد الحيله يغرق في البحر، امشي يالا جهزي اللي وراكي”
حمدت أم هاشم الله على وجود أزهار في حياتها، فهي تخفف عنها الكثير، أما أمل فصفقت من سعادتها أن هناك من سيساعدهما في الحرب التي ستخوضانها غدًا، فيكفيها الحرب التي ستخوضها الآن في تنظيف الطيور، خاصة أن محلات التنظيف قد أغلقت أبوبها الآن، شمرتا عن ساعديهما واستعانتا بالله وبدأتا الرحلة…
قامتا بغلي الماء وذبح الطيور وتنظيفها من الريش واستخراج الأعضاء الداخلية وجهزتا التتبيلة ونقعتا الطيور، قرب منتصف الليل كانتا قد أنهيتا التنظيف، الديك الرومي والبط والحمام للعمدة والمهندسين، أما الدجاج للعمال.
دخلت أم هاشم لتنعم بالراحة قليلًا تحت زخات المياه وتزيل عن جسدها العرق ورائحة تنظيف الطيور، انتهت ودخلت أمل هي الأخرى تنعم بالاستحمام.
دخلت أم هاشم غرفتها تمشط شعرها وبدلت ملابسها لذلك القميص الأحمر وهي تبكي بصمت، وتدعو أن يكون مزاج عبد الجبار قد تغير ولا يرغب بها، فهي لا تكره شيئا مثل ما تكره لقاءتهما الزوجية المتسمة بالشدة، الغلظة، القوة والأنانية لم تكد تنهي دعوتها إلا وقد فتح عبد الجبار باب الغرفة، ناظرًا لها بابتسامة راغبة بها أيما رغبة
“أيوه كده، بابقى مبسوط وإنتي بتسمعي الكلام”
رسمت على شفتها ابتسامة زائفة “طبعًا ربنا ما يحرمني منك”
ليجلس على السرير ويمد قدمه لها لتقوم بخلع حذائه
“وأهو العمده هيبعت لك بنتين يساعدوكي بكره، يعني مرتاحه من كله، بس اياكي يطبخوا ، يساعدوا بس”
“عارفه يا حاج عارفه”
“أنا داخل أرش شويه مياه عليا”
“طب ثانيه واحده بس أشوف أمل خلصت وإلا لا”
“يووه حتى في الحمام قارفاني البت دي، على فكره أنا هاخليها تروح تمتحن، بس تمتحن بس، عشان خاطر الشيخ نصار ما يزعلش”
“ربنا ما يحرمنا من حنيتك يا حاج”
وارتدت عليها الإسدال وهرعت للحمام لتجد أمل تخرج منه
“الحمد لله إنك خلصتي، أبوكي جه وعاوز الحمام، نظفتيه، وشيلتي هدومك ليزعق”
“متخافيش يا ماما”
ودخلت غرفتها.
بينما دخلت أم هاشم معركتها الخاصة والتي تركتها متألمة، مكسورة الروح، محطمة الجسد، بينما غط عبد الجبار في نوم عمق غير عابئ بتلك الملقاة بجواره.
تغلبت على ألمها وقامت لتزيل آثار المعركة من على جسدها وتناولت قرصان من المسكن لتحصل على قسط من النوم قبل ماراثون الطهو بالغد.
استيقظت كعادتها على صوت المؤذن وهو ينبه الراغبين في الصلاة قبل الآذان
“يا مصلين الفجر، الصلاة خير من النوم، باقي على آذان الفجر نص ساعه، الصلاة يا مؤمنين، الصلاة يا مسلمين”
فأيقظت عبد الجبار الذي دخل لدورة المياه واستحم وارتدى ملابسه وخرج للصلاة وأيقظت أمل وأدتا فرضهما سوية, وجهزتا الإفطار بعد مجيء عبد الجبار من الصلاة تناولوا الإفطار
“يالا بقى جهزوا الأكل عاوز أكل يشرف، المهندسين من اسكندريه، وإنتي يا بت، إيدك بإيد أمك، على الله الأكل يطلع فيه حاجه وحشه وإلا كده وكده”
ابتسمت أمل حين سمعت اسم الاسكندرية فهي عشقها والبحرحلمها
“حاضر يا بابا من عنينا إحنا هنشرفك، هي أول مره نعمل عزومه لحبايب بابا، وربنا ما يحرمني منك عشان هتسيبني أروح أمتحن”
رد وهو ينظر لها شذرًا
“على الله يطمر”
رن جرس المنزل وارتدت أم هاشم الإسدال لتفتح الباب، فأمل
لا تفتح الباب، فوجدت الفتاتين اللتان أرسلتهما أزهار لمساعدتها،
ألقى عبد الجبار السلام على الفتاتين وخرج، وهو أمام الباب
نادى على أم هاشم “آذان العصر هابعت الرجاله تآخد اكل العمال وأنا
والمهندسين والعمده هنيجي هنا”
“حاضر يا حاج كله هيكون جاهز”
وأغلقت الباب ورائه وهي تسحب نفسًا طويلًا ودخلت للمطبخ تحادث الفتاتين
“تعالوا يا بنات، فطرتوا؟”
“كتر خيرك يا حاجه أم هاشم، فِطرنا”
“والله ما يحصل الأكل محطوط زودوا”
“والله فطرنا إنتي عارفه الحاجه أزهار مش هتطلعنا من غير فطار”
“يبقى تشربوا الشاي، وإلا عاوزين المسيكيفه، على طول باتلخبط في اسمه هو والبتشينو ده”
وضحك الجميع فاقتربت أمل من الموقد “أنا هاعمل لنا كلنا كابتشينو ولماما قهوة مضبوط عشان نفوق كده ونبدأ المطحنه”
اقتربت منها هدى
“خليك يا أبله أمل هاعمله أنا”
وضحكت شهد “أنا هاشيل الطبيله”
نظرت أمل لهدى “ايه أبله دي؟! أمل بس”
“إزاي إنتي متعلمه ومتنوره”
ضحكت أمل “ده على أساس إنك إيه ؟! ما بتفكيش الخط، هو مش إنتي برضه معاكي دبلوم يا بنتي”
“وهو الدبلوم زي الثانوي؟! ده أنا نجحت بالعافيه”
“بلاش هبل أنا أمل بس”
وبدأن مغامرتهن مع حلل المحشي الكرنب وورق العنب والباذنجان
والكوسا والبطاطس، غصن في بحار اللحم المعصج من أجل عيون صواني المكرونة بالباشميل والكريب والرقاق, وجاهدن مع الممبار، واقتحمن ساحات الفراخ المشوية وشوربة لسان العصفور, والسلطات البلدي والطحينة والكول سلو فلقد كانت أصناف الطعام منوعة ما بين التقليدي والأصناف الحديثة.
أرسل عبد الجبار من يأخذ طعام العمال من الفراخ المشوية والرز الأبيض بالشعيرية وبطاطس مكعبات بالصلصة وشوربة لسان العصفور والسلطة الخضراء، وقامت الفتيات برص سفره المهندسين والعمدة يتوسطها الديك الرومي ويزينها البط والحمام من الجوانب وصواني المكرونه بالباشمل والرقاق والكريب وأطباق المحاشي والسلطات.
وبعد تناول الطعام اللذيذ الذي أثنى عليه الجميع، كان للحلو النصيب من أم علي والبسبوسة والكريم كرامل.
طلب المهندس هشام كوبًا من النسكافيه ذو الرغوة؛ ليأمر عبد الجبار أمل بإعداده فهي مشهورة به، كما طلب منها الخروج للسلام على العمدة فهو لم يرها منذ فترة، وتقديم النسكافيه للمهندس الإسكندراني
هرعت أمل لتبديل ملابسها وارتدت جلبابًا أسود مطرزًا تطريزًا بدويًا و ارتدت حجابًا بلون نبيتي، وحملت الصينية وخرجت بها ملقية السلام وسألت العمدة عن أخباره وطالبها بالحضور لمنزله لتجلس معه قليلًا فهو لا يمل من جلستها ثم دخلت.
أثنى هشام كبير المهندسين على نسكافيه أمل وانصرف الجميع وبدأت الفتيات رحلة غسيل الأواني.
أما الرجال بعد تناول مشروباتهم توجهوا لمنزل العمدة ليكملوا جلستهم هناك.
عاد عبد الجبار في المساء منتفخ النواجذ والسرور مرتسم
على محياه لتسأله أم هاشم “الحمد لله، جاي مبسوط ها شرفناك يا حاج؟”
رد ببرود وثقة “وإنتوا تقدروا ما تشرفونيش، روحي نامي”
نامت أم هاشم وهي تحس أن وراء هذا السرور سر غير الوليمة.
مرت عدة أيام وأمل في ماراثون دراسي تذاكر جاهدة لتحرز الدرجات العليا كما اعتادت لتستطيع إقناع والدها بإكمالها تعليمها، وسط تهكمات من والدها وتكسير لعزيمتها، كانت تجاهد وتستذكر دروسها وحدها، فلم يكن عبدالجبار ليسمح لها بالذهاب للدروس الخصوصية بالطبع، ولم يكن ليسمح لغريب بالدخول للمنزل لإعطائها درسًا مثلًا، وقد كان لها ما أرادت وكُلل الله جهودها وتعبها بالنجاح.
وباليوم المحدد لظهور النتيجة يرد اتصال هاتفي من الإدارة التعليمية يبشر فيه عبد الجبار بحصول ابنته على المركز الثالث على مستوى الجمهورية
أطلقت أم هاشم الزغاريد فرحة بتفوق ابنتها وأخذت أمل في القفز ممسكة بيد أمها فرحة بتعبها الذي سهرت من أجله كثيرًا وبنتيجة مجهودها فسعادتها لم تكن لتوصف، أحلامها بالدخول للجامعة ترتسم أمامها مجسدة صورة كبيرة لها وهي تحتضن كشكول محاضراتها بين ذراعيها كما تحتضن الأم وليدها، وهي تخطو أول خطواتها للجامعة، ليكسر عبد الجبار تلك الفرحة حين قال مبتسمًا
“فرحانين كده بشوية درجات أُومال لما تعرفوا إن البشمهندس هشام هيكتب عليها النهارده وهيتم الفرح بعد شهر هتعملوا إيه؟! هتطيروا بقى”
#نشوة_أبوالوفا
#nashwa_aboalwafa