د. رضا علي عطية ”
غالبًا ما يُنظر إلى الصدمة النفسية باعتبارها حدثًا جللًا، استثنائيًا، كفقدان عزيز، أو التعرض لحرب، أو عنف جسدي مباشر. ولكن ما يغيب عن كثيرين هو وجود نوع آخر من الصدمات يُعرف في علم النفس بـ “الصدمات الصغيرة” (Small-T traumas)، وهي تجارب قد تبدو بسيطة أو عابرة، لكنها تترك أثرًا عميقًا وطويل الأمد على الفرد، وتشكّل شخصيته، طريقته في التفاعل، واستجاباته الانفعالية دون وعي منه.
ما هي الصدمات الصغيرة؟
هي تجارب نفسية مؤلمة لا تُصنف تقنيًا كأحداث صادمة كبرى، لكنها تحمل رسائل سلبية متكررة أو مؤذية يتلقاها الفرد، خاصة في مرحلة الطفولة والمراهقة. ومن أمثلتها:
التعرّض للتقليل أو السخرية المتكررة.
الشعور بالإهمال العاطفي داخل الأسرة.
عدم الأمان المستمر أو الخوف من الرفض.
مقارنة مستمرة بالأقران أو الإخوة.
إجبار الطفل على كبت مشاعره أو تجاهلها.
هذه التجارب قد لا تُذكر على أنها “مأساوية”، لكنها تشكّل بيئة خصبة لنمو أنماط دفاعية، واضطرابات في الثقة بالنفس، وفي العلاقات لاحقًا.
كيف تؤثر هذه الصدمات؟
نمط التعلق غير الآمن: نتيجة غياب الأمان في البيئة الأولى.
الشعور الدائم بالذنب أو الخوف من الفشل.
الاندفاع أو الانسحاب في العلاقات الاجتماعية.
فرط الحساسية تجاه النقد أو الرفض.
ضعف في القدرة على التعبير عن المشاعر أو احتوائها.
قد يعيش الإنسان حياته كاملة وهو لا يدرك أن كثيرًا من ردود أفعاله اليومية مصدرها جرح قديم، لم يُعترف به يومًا.
كيف نتعامل مع هذه الجروح الخفية؟
1. الاعتراف بوجود الأثر: ليس من الضروري أن تكون التجربة “عنيفة” كي تترك أثرًا.
2. التأمل في الذات: مراجعة السلوكيات المتكررة وردود الفعل، والبحث عن جذورها.
3. طلب المساعدة النفسية المتخصصة: لأن كثيرًا من هذه الجروح تُشفى فقط من خلال الوعي العميق والمعالجة العلاجية
4. إعادة بناء العلاقة مع الذات: من خلال التقبل، والتسامح، ووضع حدود نفسية صحية.
5. كسر الدائرة في الجيل القادم: بالوعي في التربية، وإعطاء الطفل مساحة آمنة للتعبير والحب غير المشروط.
الخلاصة
الصدمات النفسية ليست دائمًا مدوية. أحيانًا تكون هامسة، لكنها مستمرة. وكلما أسرعنا في فهمها والتعامل معها، كلما منحنا أنفسنا فرصة أعمق للسلام النفسي، ولعلاقات أكثر توازنًا وصحة.
—
✍️
د. رضا علي عطية
استشاري نفسي وأسري – مدرب دولي معتمد
عضو بعدة جهات متخصصة في الصحة النفسية
