(المشاعر غير المعبّر عنها لا تموت أبدًا،
إنها دُفنت حيّة ، وستظهر لاحقًا،
بطُرق أبشع.)
جلس الطبيب النفسي وهو يسأل :
من أين نبدأ؟
عمر:
منذ أن بدأت أفهم وأعي.
الطبيب:
غريب أنك مُدرك لهذا ومع ذلك أقدمت بكل قواك العقلية على هذه الجريمة باعترافك.
عمر بهدوء :
نعم.. عندما انكسر الحاجز الذي أمام عيني..ورأيت..وكان بصري حديد..ليس أمامي سوى حلين..النتيجة واحدة بالفعل..ولكن لابد أن الاختيار..إما زوجتى أو….
أمك. قالها الطبيب بسرعة.
عمر:
أمي سعت وراء كل شيء.. منذ ولادتي.. ميزتني عن اخوتي.. كنت بمثابة الابن الذهبي.. طلباتي مجابه.. بلا حرمان.. أحبتني بجنون.. وهذا ما قتلني.
الطبيب:
أكمل
عمر:
لم أدرك المعنى إلا وأنا واقف أمام قبر أبي.. استعيد الذكريات والمشاعر.. لقد تحولت إلى مسخ.. هذا التدليل كان السبب في زواجي مبكرا فور انتهائي من الخدمة العسكرية التي توسطت لي و نقلتني من فرقة مشاة إلى مركز تابع للقوات المسلحة بجانب القرية!! سيدة قوية في كل شيء، اعطتني بلا حدود.. لم أفهم… لم أفهم.
الطبيب:
لم تفهم ماذا؟
عمر:
لم أفهم أنها كانت تمتلكني وتريد إلغاء شخصيتي حتى أمام زوجتي وأطفالي.. كانت تريدني أن أعبدها بعدما هجرها اخوتي.. كان الأخ الأكبر مدرك لسلوكها ووقف أمامها كثيرا واختي كذلك.. ف صارا من المغضوب عليهما والضالين.
ونبهتني زوجتي لذلك.. رغم تلبية رغباتها إلا أنها شعرت بأنها ضُره و ليست زوجة أولى.. الغداء عند أمي.. العشاء عند أمي.. النوم أحيانا في بيت أمي.. نصف ملابسي في بيت أمي.. كل ذلك زاد عن الحد بعد وفاة أبي.
شوهت سُمعة أختي حتى تطلقت وهربت منها.. أخي الأكبر سافر إلى الخارج.. بلا عودة وبقيت أنا.. تعبدني بطريقتها وأعبدها بطريقتي.. حتى علمت.
الطبيب :
ماذا علمت تحديدا؟
عمر:
في زيارة لعمتي بدون مناسبة جلست بين يديها ثلاث ساعات، حكت لي قديما عن علاقة أمي بجدي وجدتي من ناحية أبي، علمت أنها قطعت الصلة معهم منذ زواجها وبقيت بعيدة عنهم وأن ابي كان مريض بوالدته.. كان يخبر أمي أنها سوف تدخله النار وأمه سوف يدخلها الجنه .. وابتعد عنها وبقي عند والدته أو جدتي القعيدة حتى توفيت وبعدها لم يتحمل والدي ومات.
فهمت أنني كنت البديل.. كانت تريدني ابن يعوضها دور الزوجة وأن أكون مريض بها حتى صرت كذلك.
الطبيب:
وهل كان الحل الذي أقدمت عليه هو الصواب؟
عمر: لابد من الاختيار.. إما نفسي أو أمي.
الطبيب: الحلول كثيرة.. السفر للخارج.. العمل.. عملا إضافيا… الانسحاب التدريجي.. وليس القتل. ومن؟ تقتل أمك؟
عمر:
لم أكن على دراية بما أفعل… إلا عندما ذهبت عند البئر.
البداية
كانت الشمس قد بدأت في الانسحاب، تاركةً وراءها خطوطًا من ذهب وأرجواني تتلاشى ببطء على أفق القرية. عمر ، الشاب الثلاثيني ذو الشعر الداكن و عينين حالمتين، كان يجلس على حافة بئر قديمة، لا يعلم كيف اهتدى إليها، يراقب اختفاء اخر خيوط الضوء. كان الشرود يملأ عينيه، شرودٌ ليس عن غياب الشمس فحسب، بل عن غياب شيء أعمق بكثير من حياته.
مرت الأيام، وأصبحت غروب الشمس روتينًا لعمر كل مساء، بعد أن ينهي عمله، كان يتجه إلى ذلك البئر. لم يكن البئر مجرد مكان بالنسبة له، بل كان ملاذه، صديقه الصامت الذي يشاركه أسراره و أحلامه الضائعة.
في إحدى الليالي، بينما كان الظلام يلف المكان تمامًا، سمع صوتًا خفيفًا يتدفق من داخل البئر. صوتٌ أشبه بالهمس، لكنه كان واضحًا بما يكفي ليثير فضوله. انحنى عمر بحذر، محاولًا رؤية ما بداخل البئر، لكن الظلام كان كثيفًا. كان هناك نداءًا خفيًا.
فكر الطبيب النفسي قبل كتابة التقرير :
عمر فكري عبده.. يعاني من انفصام حاد في الشخصية واضطراب في الهوية نفسية بسبب نرجسية أمه وحبها الزائد عن الحد والذي أدرك فيما بعد أنه ضحية لها وكان لابد من القتل إما نفسه أو أمه. ولكنه اختار قتل السبب الرئيسي ليعيش ما تبقى من عمره في عذاب يليق بحالته النفسية.

