السيرة الذاتية

الباحثة شذى يحيى تكتب: شتاء تشارلز دودلى وارنر على النيل مع عبدالعاطى أفندى بين المومياوات والفلاحين

حكايات_الناس_والحاجات

“هذا العالم الشرقى المصغر ،المسمى بالبازار هو أبرز ما يميز الشرق،ففى هذه الأركان الباردة التى لا تخترقها الشمس إلا بريقا ،يكمن كل ما هو رث وكل ما هو رائع فى هذه الأرض ذات التناقضات العنيفة “.
تشارلز دودلى وارنر (١٨٣٩-١٩٠٠) مواطن أمريكى من ولاية ماساتشوستس انتقلت عائلته إلى نيويورك بعد وفاة والده عمل مساحا للسكة الحديد فى بداية حياته ما أورثه ولع خاص بالترحال وبعد تخرجه من كلية حقوق بنسلفانيا سنة ١٨٥٨ امضى عامين فى ممارسة المحاماة ثم انتقل للعمل فى صحيفة محلية بكونتيكت وهناك اقام مع زوجته فى مستعمرة نوك مقر العديد من الكتاب والمثقفين وتعرف على الكاتب المهم مارك توين ،فى هذه الفترة نشر سلسلة مقالاته الاولى عن البستنة وتحولت لكتاب فى ١٨٧٠هذا الكتاب اكسبه شهرة واحتراما واسعا وبحلول ١٨٨٠ اصبح من اشهر الكتاب فى الولايات المتحدة .
وارنر كان ايضا مولعا بالمصريات وعضوا مؤسسا فى جمعية إستكشاف مصر وعند تحوله لصندوق استكشاف مصر كان يخصص تبرعا سنويا مقداره خمس دولارات للصندوق
فى الفترة من ١٨٧٠ وحتى تسعينات القرن التاسع عشر قام وارنر بخمس رحلات اوربا لاوربا والشرق وكتب العديد من المقالات والكتب التى تصف مشاهداته وكان اشهر هذه الكتب الكتاب الذى وصف فيه رحلته الخريفية فى النيل وعنوانه “شتائى على ضفاف النيل بين المومياوات والمسلمين “
فى الكتاب الذى تصدر صفحته الاولى تمثال شيخ البلد الشهير وكتب تحته الرجل الخشبى ،دون وارنر ملاحظاته ومشاهداته فى مصر التى مثلها مثل مشاهدات وملاحظات أغلب مواطنيه حتى يومنا هذا لا تخلو من عنصرية ونظرة إستعلائية وإن كانت مفيدة جدا فى معرفة الكثير من جوانب الحياة فى مصر بعد خمس سنوات من افتتاح قناة السويس .
فى القاهرة التى وصفها بأنها اكثر شرقية من دمشق خلابة وقذرة بشكل مؤسف وساحرة تماما ذكر أن رفاقه الأجانب فى الفندق يرونها مدينة خارج نطاق الحضارة وان الحياة فى الجزء العربى منها لا يوجد بها أى شيئ مألوف للغربيين وأن أهلها يرتدون قناعا من الازدواج والتستر يختبئ وراءه سكانها الذين يضللون المسافرين فى. هذه المدينة العتيقة قابل مرشده وترجمانه الذى سيصطحبه فى رحلة إلى الجنوب محمد أفندى عبدالعاطى يذكر وارنر أن عبد العاطى كان مرشدا للسيد ويليام سى برايم البارع فى أدب النيل على حد ذكره ،ورافق بعثة الوالى محمد على فى بريطانيا جاب أوربا وبلاد الشام والهند فى مهام رسمية وصف وارنر عبدالعاطى بأنه يملك بشرة تشبه الهنود الحمر فيما بعد سيشبه الفلاحين فى الصعيد بأنهم يماثلون مواطنيه الهنود الحمر فى كسلهم وقذارتهم ،ذكر ان سلوكه شرقى يجمع ما بين القدرية والمماطلة ومسلم متدين يجيد الأنجليزية ،هو شيخ تراجمة القاهرة وأشهر ترجمان فى الشرق ويطلق عليه سلطان النيل
عبدالعاطى اصطحب وارنر و استأجر ذهبية من ميناء بولاق يمتلكها عربى اسمه أحمد ابو يوسف ويهودى يدعى حبيب بغدادلى من اللحظة الأولى حكم وارنر أن كل المصريين محتالين .
بعدها ذهب الاثنين للسوق أو البازار كما أطلق عليه وصف وارنر المشهد “المتاجر فظة والممرات ترابية غير ممهدة والحصير أعلاه ممزق والشرفات غير المطلية آيلة للسقوط ،الشبك رمادى اللون وتكثر البراغيث ……لكن كل هذا لاشيئ هنا عطور العرب وألوان الجنة ،هذه الشوارع جداول من الألوان المتلألئة وهذه المحلات أبهى من أى صورة “فى البازار شاهد عمل الصائغ وجنازة وحفلات زفاف ووصفها ايضا بدقة لم يعجبه شكل النساء ولا ثيابهن فى العموم وان كان اعجب بشكل وشوم وجوه نساء ساكنى المقابر لفت نظره فخامة ثياب وقفاطين التجار الحريرية كما لفت نظره ان اغلب العمال والفلاحين حفاة وأشباه عراة واطفالهم عراة تماما ببطون منتفخة تنوع الأعراق والاجناس والمشارب فى مصر لا نهائى على حد قوله حتى الاقباط فى رأيه اختلطوا عرقيا بالاحباش والسودانيين واليونانيين والعرب لدرجة أنهم لم يعد لهم صلة بالمصريين القدماء
وصف ايضا رحلته إلى مصلحة حكومية لشراء مشاعل وألعاب نارية بصحبة عبدالعاطى وتعجب من كثرة الاوراق والاختام وتوقيعات الموظفين ما يذكر بعصرنا الحالى
رؤيته لمصر أنها بلد حكمت بالقوة والترهيب من قديم الأزل ساق الفراعنة المصريين القدماء بالعصا واستبدلته سلطة الوالى والخديوى بالكرباج بل انه رأى ان الفلاحين راضين وراغبين بنصيب العبيد من الحياة على عكس ابناء القبائل العربية الذين وصفهم بالبرابرة المفترسين والقذرين واللصوص اعجبه نساء الغجر والقبائل ووصفهن انهن اكثر جمالا من المصريات بحليهن الفضية ،رأيه أن الفلاحين والبدو كانوا على نفس درجة تحضر الأوربى عندما كان يخوض فى المستنقعات وان التاريخ توقف بالنسبة إليهم عند هذه المرحلة
وعندما وصل إلى اسيوط ليرى اجمل النساء واكثرهن تهتكا فى مصر الغوازى بفساتينهن البراقة الزاهية الصفراء والحمراء وهن متزينات بقلائد واقراط واساور وخلاخيل مطلية بالذهب والفضة كان إحباطه شديدا لدرجة قوله إن كن هؤلاء اجمل نساء مصر فإن الاخريات حكيمات للاحتفاظ بحجابهن
فى فرشوط سيرى غوازى اخريات موشومات على الوجوه والصدور يستعملن الكحل الثقيل ويرتدين خلاخيل العظم والفضة ويتحلين بحلى ثقيلة واحزمة فضية
عبد العاطى اخبره ان الناس فى فرشوط لا يحبون الاجانب كتب فى مذكراته أنه من المثبط لكبريائه أن يحتقر من همج أنصاف عراة
كان انطباع وارنر عن الناس العاديين أن كثير منهم لصوص ماهرون ،وانهم مليئون بالخداع والمكر ولطفهم لا ينضب. وقال إن الرذائل والصفات الحميدة ليست نتاجا للوحشية والهمجية بل نتاج حضارة بالية.
اكمل وارنر ملاحظاته ومشاهدته عن الحكام وتجار الآثار والأهالي فى كتابه الضخم الذى وصف بدقة كل ما شاهده والطريف أن بعد عودته لبلاده بسنوات أصبح هذا الكاتب أحد نواب الرئيس الأمريكى
توفى مطلع القرن العشرين وحمل نعشه الروائى مارك توين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى